كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واعلم أنه بقيت صورتان من صور القسامة عند مالك.
الأولى: أن يشهد عدلان بالضرب، ثم يعيش المضروب بعده أيامًا ثم يموت منه من غير تخلل إفاقة. وبه قال الليث أيضًا.
وقال الشافعي: يجب في هذه الصورة القصاص بتلك الشهادة على الضرب. وهومروي أيضًا عن أبي حنيفة.
الثانية: أن يوجد مقتول وعنده أو بالقرب منه من بيده آلة القتل، وعليه أثر الدم مثلًا، ولا يوجد غيره فتشرع القسامة عند مالك. وبه قال الشافعي. ويلحق بهذا أن تفترق جماعة عن قتيل. وفي رواية عن مالك في القتيل يوجد بين طائفتين مقتتلتين: أن القسامة على الطائفة التي ليس منها القتيل إن كان من أحدى الطائفتين. إما إن كان من غيرهما فلاقسامة عليهما. والجمهور على أن القسامة عليهما معًا مطلقًا.
قاله ابن حجر في الفتح.
وأما اللوث الذي تجب به القسامة عند الإمام أبي حنيفة فهو أن يوجد قتيل في محله أو قبيلة لم يدر قاتله، فيحلف خمسون، رجلًا من أهل تلك المحلة التي وجد بها القتيل يتخيرهم الولي- ما قتلنا ولا علمنا له قاتلًا. ثم إذا حلفوا غرم أهل المحلة الدية ولا يحلف الولي، وليس في مذهب أبي حنيفة رحمه الله قسامة إلا بهذه الصورة.
وممن قال بأن وجود القتيل بمحله لوث يوجب القسامة: الثوري والأوزاعي. وشرط هذا عند القائلين به إلا الحنيفة: أن يوجد بالقتل أثر. وجمهور أهل العلم على أن وجود القتيل بمحله لا يوجب القسامة، بل يكون هدرًا لأنه قد يقتل ويلقى في المحلة لتلصق بهم التهمة. وهذا ما لم يكونوا أعداء للمقتول ولم يخالطهم غيرهم وإلا وجبت القسامة. كقصة اليهود مع الأنصاري.
وأما الشافعي رحمه الله فإن القسامة تجب عنده بشهادة من لا يثبت القتل بشهادته. كالواحد أو جماعة غير عدول. وكذلك تجب عنده بوجود المقتول يتشحط في دمه، وعنده أو بالقرب منه من بيده آله القتل وعيله أثر دم مثلًا ولا يوجد غيره، ويلحق به افتراق الجماعة عن قتيل.
وقد قدمنا قول الجمهور في القتيل يوجد بين الطائفتين المقتتلتين. والذي يظهر لي أنه إن كان من إحدى الطائفتين المقتتلتين: أن القسامة فيه تكون على الطائفة الأخرى دون طائفته التي هو منها وكذلك تجب عنده فيما كقصة اليهودي مع الأنصاري.
وأما الإمام أحمد فاللوث الذي تجب به القسامة عنده فيه روايتان.
الأولى: أن اللوث هو العداوة الظاهرة بين المقتول والمدعي عليه، كنحو ما بين الأنصار واليهود، وما بين القبائل والأحياء وأهل القرىلذين بينهم الدماء والحروب وما جرى مجرى ذلك. ولا يشترط عنده على الصحيح الا يخالطهم غيرهم- نص على ذلك الإمام أحمد في رواية مهنأ. واشترط القاضي الا يخالطهم غيرهم كمذهب الشافعي. قاله في المغني.
والرواية الثانية عن أحمد رحمه الله- ان اللوث هو ما يغلب به على الظن صدق المدعي، وذلك من وجوه:
أحدها: العدواة المذكورة.
والثاني: أن يترق جماعة عن قتيل فيكون ذلك لوثًا في حق كل واحد منهم. فإن ادعى الولي على واحد فأنكر كونه مع الجماعة فالقول قوله مع يمينه- ذكره القاضي، وهو مذهب الشافعي.
والثالث: أن يوجد المقتول ويوجد بقربه رجل معه سكين أو سيف ملطخ بالدم، ولا يوجد غيره.
الرابع: أن تقتتل فئتان فبفترقون عن قتيل أحدهما، فاللوث على الأخرى. ذكره القاضي. فإن كانوا بحيث لا تصل سهام بعضهم بعضًا فاللوث على طائفة القتيل. وهذا قول الشافعي. وروي عن أحمد: أن عقل القتيل على الذين نازعوهم فيما إذا اقتتلت الفئتان إلا أن يدعوا على واحد بعينه.
وهذا قول مالك. وقال ابن أبي ليلى: على الفريقين جميعًا، لأنه يحتمل أنه مات من فعل أصحابه فاستوى الجميع فيه. وقد قدمنا عن ابن حجر أن هذا قول الجمهور.
الخامس: أن يشهد بالقتل عبيد ونساء. فعن أحمد هو لوث لأنه بغلب على الظن صدق المدعي. وعنه ليس بلوث، لأنها شهادة مردودة فلم يكن لها أثر.
فأما القتيل الذي يوجد في الزخام كالذي يموت من الزخام يوم الجمعة أو عند الجمرة- فظاهر كلام أحمد أن ذلك ليس بلوث، فإن قال فيمن مات بالزخام يوم الجمعة: ديته في بيت المال. وهذا قول غسحاق، وروي عن عمر وعلي، فإن سعيدًا روى في سننه عن إبراهيم قال: قتل رجل في زخام الناس بعرفة. فجاء أهله إلى عمر فقال بينتكم على من قتله؟ فقال علي: يا أمير المؤنين، لا يطل دم امرىء مسلم إن علمت قاتله، وإلا فأعطهم ديته من بيت المال. انتهى من المغني.
وقد قال ابن حجر في الفتح: (في باب إذا مات في الزخام أو قتل به) في الكلام على قتل المسلمين يوم أحد اليمان والد حذيفة رضي الله عنهما ما ننصه: وحجته يعني إعطاء ديته من بيت مال المسلمين ما ورد في بعض طرق قصة حذيفة، وهو ما أخرجه أبو العباس السراج في تاريخه من طريق عكرمة: أن والد حذيفة قتل يوم أحد قتله بعض المسلمين وهو يظن أنه من المشركين، فوداه رسول الله صلى الله عليه وسم وقد تقدم له شاهد مرسل ايضًا (في باب العفو عن الخطأ) وروى مسدد في مسنده من طريق يزيد بن مذكور: أن رجلًا زحم يوم الجمعة فمات فوداه علي من بيت المال.
وفي المسالة مذاهب أخرى:
منها: قول الحسن البصري: أن ديته تجب على جميع م حضر، وهو أخص من الذي قبله. وتوجيهه: أنه مات بفعلهم فلا يتعداهم إلى غيرهم.
منها قول الشافعي ومن تبعه: أنه يقال لوليه ادَّعِ على من شئت واحلف. فإن حلفت استححقت الدية، وإن نكلت حلف المدعى عليه على النفي وسقطت المطالبة. وتوجيهه: أن الدم لا يجب إلا بالطلب.
ومنها قول مالك: دمه هدر. وتوجيهه: أنه إذا لم يعلم قاتله بعينه استحال أن يؤخذ به أحد. وقد تقدمت الإشارة إلى الراجح من هذه المذاهب (في باب العفو عن الخطأ)- انتهى لام ابن حجر رحمه الله.
والترجيح السابق الذي أشار له هو قوله في قول حذيفة رضي الله عنه مخاطبًا للمسلمين الذين قتلوا أباه خطأ: غفر الله لكم، استدل به من قال: إن ديته وجبت على من حضر. لأن معنى قوله: غفر الله لكم عفوت عنكم، وهو لا يعفو إلا عن شيء استحق أن يطالب به.
انهى محل الغرض منه. فكأن ابن حجر يميل إلى ترجيح قول الحسن البصري رحمه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: أظهر الأقوال عندي في اللوث الذي تجب القسامة به: أنه كل ما يغلب به على الظن صدق أولياء المقتول في دعواهم. لأن جانبهم يترجخ بذلك فيحلفون معه. وقد تقرر في الأصول: أن المعتبر في الروايات والشهادات ما تحصل به غلبة الظن، وعقده صاحب مراقي السعود بقوله في شوط الرواي:
بغالب الظن يدور المعتبر ** فاعتبر الإسلام كل من غبر

-إلخ.
فروع تتعلق بهذه المسألة:
الفرع الأول: لا يحلف النساء ولا الصبيان في القسامة، وإنما يحلف فيها الرجال. وبهذا قال أبو حنيفة وأحمد، والثوري والأوزاعي وربيعة والليث، ووافقهم مالك في قسامة العمد، وأجاز حلف النساء الوارثات في قسامة الخطإ خاصة. وأما الصبي فلا خلاف بين العلماء في أنه لا يحلف أيمان القسامة. وقال الشافعي: يحلف في القسامة كل وارث بالغ ذكرًا كان وأنثى، عمدًا كان أو خطأ.
واحتج القائلون بأ، ه لا يحلف إلا الرجال بأن في بعض روايات الحديث في القسامة يقسم خمسون رجلًا منكم. قالوا: ويفهم منه أن غير الرجال لا يقسم.
واحتج الشافعي ومن وافقه بقوله صلى الله عليه وسلم: «تحلفون خمسين يمينًا فتستحقون دم صاحبكم» فجعل الحالف هو المستحق للدية والقصاص. ومعلوم أن غير الوراث لا يستحق شيئًا- فدل على أن المراد حلفمن يستحق الدية.
وأجاب الشافعية عن حجة الأولين بما قاله النووي في شرح مسلمز فإنه قال في شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: «يقسم خمسون منكم على رجل منهم» ما نصه: هذا مما يجب تأويله. لأن اليمين إنما تكون على الوراث خاصة لا على غيره من القبيلة. وتأويله عند أصحابنا: أن معناه يؤخذ منكم خمسون يمينًا والحالف هم الورثة، فلا يحلف أحد من الأقارب غير الورثة، يحلف كل الورثة ذكورًا كانوا أو إناثًا، سواء كان القتل عمدًا أو خطأ- هذا مذهب الشافعي، وبه قال أبو ثور وابن المنذر. ووافقنا مالك فيما إذا كان القتل خطأ، وأما في العمد فقال: يحلف الأقارب خمسين يمينًا. ولا تلحلف النساء ولا الصبيان. ووافقه ربيعة والليث، والأوزاعي وأحمد وداود وأهل الظاهر انتهى الغرض من كلا النووي رحمه الله.
ومعلوم أن هذا التأويل الذي أولوا به الحديث بعيد من ظاهر اللفظ. ولا سيما على الرواية التي تصرح بتمييز الخمسين بالرجل عند أبي داود وغيره.
الفرع الثاني: قد علمت أن المبدأ بأيمان القسامة أولياء الدم على التحقيق كما تقدم إيضاحه. فإن حلفوا استحقوا القود أو الدية على الخلاف المتقدم. وإن نكلوا ردت الأيمان على المدعى عليهم. فإن حلفوها برؤوا عند الجمهور، وهوالظاهر لقوله صلى الله عليه وسلم: «فتبرئكم يهود بأيمان خمسين منهم» أي يبرؤون منكم بذلك. وهذا قول مالك والشافعي، والرواية المشهورة عن أحمد، وبه قال يحيى بن سعيد الأنصاري وربيعة وأبو الزناد والليث وأبو ثور، كما نقله عنهم صاحب المغني.
وذهب الإمام أبو حنيفة إلى أنهم إن حلفوا لزم أهل لالمحلة التي وجد بها القتيل أن يغرموا الدية. وذر نحوه أبو الخطاب. رواية عن أحمد. وقد قدمنا أن عمر ألزمهم الدية بعد أن حلفوا. ومعلوم أن المبدأ بالأيمان عند أبي حنيفة المدعى عليهم، ولا حلف على الأولياء عنده كما تقدم.
الفرع الثالث: إن امتنع المدعون من الحف ولم يرضوا بأيمان المدعى عليهم- فالظاهر أن الإمام يعطي ديته من بيت المال. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم فعل لك، والله تعالى يقول: {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
الفرع الرابع: إن ردت الأيمان على المدعى عليهم فقد قال بعض أهل العلم: لا يبرأ أحد منهم حتى يحلف بانفراده خمسين يمينًان ولا توزع الأيمان عليهم بقدر عددهم.
قال مالك في الموطأ: وهذا أحسن ما سمعت في ذلك. وهو مذهب الإمام أحمد.
وقال بعض علماء الحنابلة: تقسم الأيمان بينهم على عددهم بالسوية. لأن المدعى عليهم متساوون. وللشافعي قولان كالمذهبين اللذين ذكرنا. فإن امتنع المدعى عليهم من اليمسن فقيل يحسبون حتى يحلفوا. وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن أحمد، وهو مذهب مالك أيضًا. إلا أن المالكية يقولون: إن طال حبسهم ولم يحلفوا تركوا، وعلى كل واحد منهم جلد مائة وحبس سنة. ولا أعلم لهذا دليلًا. وأظهر الأقوال عندي: أنهم تلزمهم الدية بنكولهم عن الإيمان، ورواه حرب بن إسماعيل عن أحمد، وهو اختيار أبي بكر. لأنه حكم ثبت بالنكور فثبت في حقهم ها هنا كسائر الدعاوى. قال في المغني: وهذا القول هو الصحيح، والله تعالى أعلم.
الفرع الخامس: اختلف العلماء في أقل العدد الذي يصح أن يحلف أيمان القسامة. فذهب مالك وأصحابه إلى أنه لا يصح أن يحلف أيمان القسامة في العمد أقل من رجلين من العصبة. فلو كان للمقتول ابن واحد مثلًا استعان برجل آخر من عصبة المقتول ولو غير وارث يحلف معه أيمانها. وأظهر الأقوال دليلًا هو صحة استعانة الوارث بالعصبة غير الوارثين في إيمان القسامة. لأن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال لحويصة ومحيصة: «يحلف خمسون منكم» الحديث. وهم ابنا عم المقتول، ولا يرثان فيه لوجود أخيه. وقد قال لهم: «يحلف خمسون منكم» وهو يعلم أنه لم يكن لعبد الله بن سهل المقتول عشرون رجلًا وارثون. لأ، ه لا يرثه إلا أخوه ومن هو في درجته أو أقرب منه نسبًا.
وأجاب المخالفون: بأن الخطاب للمجموع مرادًا به بعضهم، وهو الوارثون منهم دون غيره ولا يخفى بعده.
فإن كانوا خمسين حلف كل واحد منهم يمينًا. وإن كانوا أقل من ذلك وزعت عليهم بحسب استحقاقهم في الميراث. فإن نلك بعضهم رد نصيبه على الباقين إن كان الناكل معينًا لا وارثًا. فإن كان وارثًا يصح عفوه عن الدم سقط القود بنكوله، وردت الأيماتن على المدعى عليهم على نحو ما قدمنا. هذا مذهب مالك رحمه الله.
وأما القسامة في الخطأ عند مالك رحمه الله- فيحلف أيمانها الوراثون على قدر أنصبائهم. فإن لم يوجد إلا واحد ولو امرأة حلف الخمسين يمينًا كلها واستحق نصيبه من الدية.
وأما الشافعي رحمه الله فقال: لا يجل الحق حتى يحلف الورثة خاصة خمسين يمينًا سواء قلوا أم كثروا. فإن كان الورثة خمسين حلف كل واحد منهم يمينًا واستحلق حتى لو كان من يرث بالفرض والتعصب أو بالنسب والولاء حلف واستحق.
وقد قدمنا- أن الصحيح في مذهب الشافعي رحمه الله: أن القسامة إنما تستحق بها الدية لا القصاص.
وأما الإمام أحمد فعنه في هذه المسألة روايتان:
الأولى: أنه يحلف خمسون رجلًا من العصبة خمسين يمينًا، كل رجل يحلف يمينًا واحدة. فإن وجت الخمسون من ورثة المقتول فذلك، وإلا كملت الخمسون من العصبة الذي لا يرثون، الأقرب منهم فالأقرب حتى تتم الخمسون. وهذا قول لمالك أيضًا، وهذا هو ظاهر بعض روايات حديث سهل الثابتة في الصحيح.
والرواية الأخى عن الإمام أحمد- أنه لا يحلف أيمان القسامة إلا الورثة خاصة، وتوزع عليهم على قدر ميراث كل واحد منهم. فإن لم يكن إلا واحد حلف الخمسين واستحق. إلا أن النساء لا يحلفن أيمان القسامة عند أحمد. فالمراد بالورثة عنده الذكور خاصة. وهذه الرواية هي ظاهر كلام الخرقي، واختيار أبي حامد.